لدول  والنظم حياة تشبه حياة الكائن الحي يولد وينمو ثم يهرم ليفنى ،فلدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تماما.

قسم ابن خلدون في مقدمته حياة النظام الحاكم بأربعة أطوار: طور الظفر  والإستيلاء على الحكم غلبة وقهرا وانتزاعا يليه دور الإستبداد والإنفراد بالسلطة والتنكر للعصبة ويتبع ذلك  دور الإستمتعاع بثمرات الحكم وفيه تسود الراحة والطمأنينية، إلى أن يأتي الطور الرابع وهو طور الهرم  نتيجة الإسراف والتبذير وغالبا ما تكون النتيجة السقوط والزوال بسبب الدكتاتورية والرؤية الفردية وفي حالات قليلة تتوفر قدرة نقد واصلاح لمن حول القيادة فيعيدون تجميع العصبية وتجديد الحيوية في روح النظام. ففي أي طور تعيش حكومة الشعبية ونظامها هذه الأيام؟

ولقد وصلت الشعبية طور الظفر منذ الفترات التي تحالفت فيها مع وياني تقراي وأزالت جبهة التحرير الإرترية من الساحة مرورا بحروب الساحل وتحرير المدن حتى فترة  الإستفتاء وإعلان استقلال إرتريا من إثيوبيا ، لكن روح الإستبداد في الجبهة الشعبية متمثلة في أفورقي كانت تسبق فترة الظفر والإستيلاء على الحكم وهذه الروح جعلت أفورقي يعمل للإنفراد بالحكم والكرسي منذ بداية الثورة وقبل تحرير إرتريا  ولم تكن معاركه مع الإثيوبين لتشغله عن معركة أخرى خفية وهي تصفيات الشخصيات الإرترية القوية أيا كان إنتماءاتها وتنظيماتها وبدأ ذلك من قبل إبادة كوادر (منكع) ثم التخلص من كل القيادات السياسية والعسكرية المهمة في باقي التنظيمات ليتفرغ بعدها لتصفية المنافسين المحتملين  داخل تنظيمه، فقام بتصفيات داخل الجبهة وكان اخطرها  الشخصية العسكرية الأولي ربما على مستوى الثورة الإرترية كلها وهو القائد العسكري (ابرهيم عافة) ثم أهم شخصية سياسية اغتالها أفورقي كان عبد الله دود ، وبلغ الإستبداد حدا يهدد وجود الجبهة الشعبية عندما تخلص من مجموعة الإصلاحيين والتي عرفت بمجموعة (الخمسة عشر) وهي القيادات الكبيرة التي قادت الجبهة الشعبية في حرب التحرير، وأظهر أفورقي حينها قمة الإستبداد ، ومن يومها انقسم رأي الشعب  تجاه أفوقي إلي رأيين:

 قسم يراه القائد الموهوب ( القلة المنتفعة والمسطرة في موارد الدولة) والقسم الآخر يراه سارق إنتصارات الثورة وعدو الأمة ( وهم الأغلبية)،  وهذه الخطوة الأخيرة عجلت  بنقل نظام أفورقي إلى طور الهرم وكانت كافية لموت النظام لولا وجود عدة عوامل على رأسها ضعف معارضات أفورقي ورضى المجتمع الدولي المتمثل في إمريكا واسرائل ومن يواليهما ، وهذين العنصرين أطالا عمر النظام  رغم دخوله في طور الهرم والإنقراض  مبكرا ،ومما ساعد على بقاء النظام في نعشه جهل الشعب الإرتري بمعنى الحرية ، فأغلبهم  يعرف فقط حرية الأرض ويرى بأنها قد تحققت بتحرير إرتريا من إثيوبيا ،ولا يعرف حرية الإنسان وما  يترتب عليها من حقوق ،لهذا فإن كلمة العدو مرتبطة في الذاكرة التاريخية لكثير من العشعب الإرتري بإثيوبيا التي كانت تستعمر إرتريا ، ولا يدري  أن حرية الإنسان (المغتصبة من قبل نظام أفورقي) أغلي وأكرم من حرية الأرض التي استردت بدماء آلاف الشهداء ،عليه لابد من نضالات وشهداء جدد  لإنتزاع حرية الإنسان كل الحريات من الإستعمار المحلي(نظام أفورقي) ، ومن الأسباب التي منعت الشعب من محاربة أفورقي أن المجتمع الإرتري لا تجمعه قيم  (مسلمين ومسيحيين) وهذا لا يعطي رؤية موحدة في تشخيص النظام وبالتالي في وسائل محاربته  وإزالته – فليس من قطع ظفره كمن قطع رأسه – كل تلك العوامل ساعدت في بقاء النظام وهو في حال هرم مترنح يمتص دم الشعب والوطن.

ولما كانت اهم أسباب سقوط النظم داخلية( موت العصبية ثم موت النظام) فإن أكبر ضربات تلقاها النظام في تفتيت عصبيته كان أخرها الصراع المسيحي المسيحي حيث تدور صراعات مسيحية تهدد سيطرة حكم المسيحيين في إرتريا ، وهو صراع حكومة افورقي مع مجموعة (جهوبة والبينتا كوستا) لأن هذا الصراع يضعف قوة الشعبية وربما يزيلها مادامت عصبية الشعبية تعتمد وبشكل غير معلن على أيديولوجية غايتها سيطرت المسيحيين في إرتريا دمغرفيا وجغرافيا، وقد التحق أفورقي إلى الثورة لتحقيق هدفان:

 هدف استراتيجي حماية المسيحيين من سيطرة المسلمين في إرتريا  والهدف الثاني تحرير إرتريا وهو هدف تكتيكي من أجل الهدف الأول ، وهذا يفسر تأخر إلتحاق المسحيين بالثورة ، واليوم عندما تتآكل عصبية الشعبية بإنقسام المسيحيين تكون قد فشلت في تحيقيق أهدافها الكبرى ، ولم تخطط الشعبية يوما ثورة كانت أم  حكومة  من أجل بناء عصبية الأمة والدولة الإرترية كما هو حال الدول التي يكون فيها الإنتماء  للوطن  بتوفير كامل الحقوق والحريات لمواطنيها ولكنها خرجت لأهداف طائفية إلا أن مقدارتها في التنظيم وما لها من مكر جعلها تقود تنظيم من قوميات متعددة لكن من أجل مستقبل قومية واحد ، وقد فشلت اليوم في توفير الأمن والرفاهية  حتى للقومية التي خرجت من أجلها.

وقد أحس النظام بتآكل داخلي ولهذا حاول إعادة الروح في جسده بإعادة تماسكه واسترجاع عصبيته لكن بطرق غير صحيحة  فأمر أفورقي جنارالاته المسيحيين بفبركة ما يشبه الإنقلاب  فكانت معركة (فورتو) الأخيرة التي أراد منها عدة فوائد: أولها  تجديد وترميم (العصبية المسيحية)  المتصدعة بتصرفاته  الدكتاتورية والإستبدادية ثانيها التخلص من القيادات الوطنية الكبيرة من أبناء المسلمين والتي مازالت تقود وحدات هامة ولها شعبيتها وسط الجيش وبقائها يحول دون جعل الجيش جيشا طائفيا ،أيضا أراد منها مغازلة إثيوبيا حيث كانت تواجه حينها إحتجاجات وتحركات قوية من المسلمين ضد الحكومة ، فأراد أن يقول لهم نحن وأنتم نواجه عدوا واحدا وهو التطرف الإسلامي ، وربما أراد إحياء إحلام الما ضي  مشروع (دولة التقرنيا ) وهذا وارد في ظل ما يقال بأن الكنائس الغربية تبذل جهودا من أجل وحدة مسيحيي القرن الأفريقي وبالطبع أن موت ملس العدو اللدود لأفورقي تساعد في ذلك . لكن معركة فورتو لم تحقق ما اريد منها  فمازالت الطوائف المسيحية المعادية لأفورقي في حالها( الجهوبة والبنتاكوستا)  وحتى القاعدة المسيحية لم  تكن غبية إلى حد تصديق  مقولات أفورقي وجود متطرفين إسلامين في أوساط الجيش الإرتي لهذا تعد فبركة (فورتو) جزئ من الإخفاقات المتكررة لنظام أفورقي ولم تساعد في إعادة عصبية النظام  والتي تحتاج إلى غياب أفورقي من الوجود  وسيظل الشعب الإرتري يعيش يقاسي العذاب مادامت المعارضات لا تملك القدرات الكافية لمواجهة نظام أفورقي ولا النظام الدولي المتخاذل مستعد لنصرة الشعب الارتري. لكن الحقيقة التي يعلمها كل متابع أن عصبية الشعبية تآكلت فهرم نظامها الحاكم  ومن يهرم يتوقع موته لأي اسباب عاجلا أو آجلا. 

فهل فشل الشعبية هو فشل لحكم المسيحيين في إرتريا؟ كون الشعبية أدارت مرحلة الثورة والدولة بقيمها وثقافتها وبرنامجها. ومعلوم أن الشعب الإرتري يتكون من قسمين -حسب العقيدة – من مسلمين ومسيحيين ، المسلمون أسسوا الثورة ثم تبعثروا في تنظيمات لا تجمع بينها أفكار ،فلم تجد مقومات البقاء فصارت خارج الوطن وخارج اللعبة السياسية أما جمهور الشعبية من ابناء المسلمين شعبا كانوا أم جيشا فهم أتباع لحكم الحاكم لأن صاحب الكرسي الحقيقي يحكم بعقيدته وثقافته خاصة في دولة غير ديمقرطية وصاحب الكرسي الحقيقي في كل مفاصل الدولة الإرترية من أيام الثورة هي العناصر المسيحية فهل يملك المسيحيون الإرتريون الشجاعة الكافية ويعترفوا بأنهم فشلوا في إدارة الشعب الإرتري والدولة الإرترية؟ وماذا يملك القسم الثاني من سكان إرتريا (المسلمون) بعد هذه التجربة الفاشلة من تنظيم المسيحيين في إرتريا هل يملكون مشروعا ورؤية لإعادة هيبة الشعب والدولة الإرترية من جديد؟

 أعتقد إنه آن الأوان لأن يراجع القسم الآخر من سكان الإرتريا مواقفهم ونضالاتهم وأسباب إخفاقاتهم في الماضي مستفيدين من فشل ثوراتهم وفشل النظام الحكام كي ياسسوا نظام قوي يرد للشعب الإرتري كرامته وسيادته ، لكن إن أرادوا ذلك لا يمكن أن يتم لهم ذلك إلا عبر وحدتهم أولا وحدة المسلمين كهدف تكتيكي (عصبية المسلمين) من أجل الهدف الإستراتيجي وهو(عصبية الدولة الإرتريه) والشعبية عندما بنت عصبية المسيحية الغير معلنة وكونها تنظيم أسسه مسيحي من أجل وضع المسيحين في إرتريا فأول مافعلته قامت بتفكيك وحدة المسلمين (عصبتهم) فادخلت مشروعها الجهنمي ( لغة الأم ) وتقسيم إرتريا إلى قوميات ،  كان الهدف منها صريح وهو تفتيت وحدة المسلمين وتجهيلهم ، هدف نابع من سياسة فرغ تسد(سيادة التقرنيا) استمر إلى يومنا هذا لكنه إلى أي مدى سيصمد في ظل إنكشاف برنامج الشعبية السري(تقرنة الدولة) حيث صارت تعمل في وضح النهار واحلال المسيحين في أراضي المسلمين وتقسيم الأقاليم بحيث تسيطر التقرنيا في كل الاقاليم بدل أن تكون في ثلاث أقاليم حسب وجودها وبما يتناسب التقسيم الإيطالي ، تقسيم الاقاليم الذي تم في عهد الشعبية هو من أجل السيطرة في أراضي المنخفضات والساحل وهو يشبه تماما نظام  الإستيطان الذي يتبعة الصهاينة  في فلسطين من تجميع المسيحيين في أراضي المسلمين وتوجيهمم وتمويلهم وتوفير الحماية القانونية لهم ، من أجل ذلك صارت الأمور واضحة وضوح الشمس بأن الشعبية لم تكن يوما تملك مشروعا وطنيا وإنما لحقت بالثورة لتحقيق مشروع طئفي وهو سيطرة المسيحيين  على إرتريا وتهجير المسلمين إلى خارج إرتريا، ومن آثر منهم البقاء أن يكون تابع ذليل تحت ثقافة التجرنية والدين المسيحي.

لكن هذا جهل من الطائفة الحاكمة بالدين الإسلامي وبتاريخ إرتريا وجغرافيتها، فالدين الإسلامي دين حي معاش لكل زمان مكان ومصادره محفوظة من الله( القران والحديث) وهو دين عملي حياتي في كل لحظة وليس كباقي الأديان يمارس ما بين الحين والحين في أماكن معينة، غير محرف لا يقبل لأنصاره التبعية، حتى تاريخ إرتريا مرتبط بالدولة الإسلامية، ثم إن إرتريا كانت في كل عصورها مسلمة الملامح والحشى لأن المسيحيين كانو محصورين في ثلاث أقاليم داخلية ، فالذي يمر ببحرها كان يرى الإسلام والمسلمين وبكل جهاتها ، فقط كان الوجه المسيحي يطل بين المسلمين في جنوب مرتفعات إرتريا في حدودنا مع تقراي حتى هنالك لم يظهر الوجه المسيحي  لوحده ولكن كان يشاركه الوجه المسلم  وأيضا ارتريا كانت ضمن إمارات الدولة الإسلامية في كل مراحلها وأول بلد وطته اقدام الصحابة في أفريقيا فكيف ترضي أن تكون مسيحية الملامح؟! حتى منطق الجغرافيا يرفض ذلك ،أليست إرتريا وهي صاحب أكبر نصيب من البحر الاحمر من الجانب الأفريقي؟

هذا البحر العربي المسلم ينبغي أن يفهم الجميع هذه الحقائق حتى لا ندخل في حروب وصراعات داخلية بين الطائفتين وحتي لا يستخدم كل طرف ما يملك من أوراق وشرعية فإن كانت  الشعبية والقسم المسيحي يملكون شرعية الأمر الواقع ونظام حاكم ،فالمسلمين يملكون التاريخ والديمغرافيا والجغرافيا المحيطة بإرتريا ،بل أهم قوة يملكها المسلمون هي قيمهم المهملة لأنها قيم السماء الباقية في الوجود ولو  وفهموها ومارسوها يمكن أن تخرجهم من السجون وسوف تجلسهم في الكراسي ويمكنهم حينها أن ياسسوا وطنا حرا عزيزا ليس للمسلمين وحدهم ولكن لكل سكان إرتريا وبكل أطيافهم، من اجل ذلك اقول بأعلى صوتي إننا في الوقت الذي نرى فيه ترنح دولة الشعبية الطائفية والتي بنيت أساسا على العصبية المسيحية علينا أن نعمل لحماية الدولة الإرترية والشعب الإرتري بتجربة بإسترجاع العصبية الثانية في إرتريا وهي وحدة المسلمين كمسلمين وليس كإسلامين تحت شعار الإسلام ديننا والعربية لغته ، ولنتخلص من لغة الأم حتى نصبح مجتمع يحمي نفسه وإخوانه المسيحيين من الطائفية الحاكمة وحتى من متشددين إسلامين إن ظهروا في المستقبل والمسلم  أيا كان لونه عليه أن يرفع شعار بقاءنا في ديننا ولغتنا وليس في تقسيمنا إلى قوميات جميعها تصفق لقومية واحد تخطط لإبتلاع الجميع وحتى المسيحين الذين عانوا من مآسي حكم الشعبية حتى صاروا يباعون في خيام الزبيدية عليهم أن لا يقاوموا تقوية المسلمين في إرتريا فإنهم صمام أمان للجميع متى ما رجعوا إلى دينهم وفهموه ومارسو تعاليمه، فهو دين القوة والعدالة يصنع أجيال قوية عادلة وهي التي يحتاج إليها الشعب الإرتري.

ومن سنن الله في الأرض أن النظم والحكومات لا تقع من تلقاء نفسها مهما بلغ بها الهرم والتآكل والعجز ولكن تحتاج إلى المدافعة وهذا هو سر بقاء الشعبية والأمل مازال معقود على معارضة الداخل والشباب المستنير في الخارج أما المعاراضات القديمة والتي  تسمع جعجعات في أديس وغيرها فقد سبقت النظام في الهرم ،فهي لا تملك لا فكر ولا رؤية ولا مشاريع تجعلها في درجة المدافعة مع النظام ، والشعب الإرتري الذي يتوجب عليه إزالة النظام الفاسد بأي وسيلة أيضا ينبغي أن يوفر دار مسنين لإيواء المعارضات التي صارت حمل ثقيل على أكتاف الشعب الإرتري المنهك.

 وتأكيدا لما ذكر أعلاه من إضمحلال النظام وجدت في الشهر الماضي شيخا في أحد معسكرات اللاجئين شرق السودان عاد لتوه من إرتريا هربا ببنات بنته من التجنيد الإجباري، فسألته عن الشعبية ونظامها فقال لي: نظام أفورقي يقتلنا وهو في فراش الموت.

قلت له كيف تقول ذللك وأنت هارب منهم قال لي: يابن أن كرسي أي نظام محمي بشيئين يكونان في قلوب شعبه وهما  الحب والخوف ويشكلان جدارين يحميان كرسي النظام ،ومتى ما سقط واحد منهما اهتز الكرسي ، فلم تكن تملك الشعبية  منذ نشئتها في التلال الساحلية الشرقية حبا إلا من  فئة قليلة من الشعب ،ونتيجة لفشلها في قيادة الدولة فقدت الجناح الآخر وهو خوف الشعب، فماذا تتوقع لرئيس أو نظام يجلس على كرسي لا يحميه حب ولا خوف؟!

أن حكومة (العدالة) تحتاج فقط إلى رفسة قوية من الشعب المكبل إعلانا لإرادة الحياة، وحينها يكون الشعب قد استجاب للقدر ويمكن بعدها للقيد أن ينكسر.

التعليقات معطلة.