عاش المجتمع الإرتري ما يقرب من شهر حالة من الترقب والقلق بسبب أحداث الواحد و العشرين من يناير المنصرم والتي جعلت البلاد علي مفترق طرق، إما الانزلاق الى الفوضى ، أو الانعتاق من الدكتاتورية ، أو الاستمرار في هجير بطشها، في المقابل كان النظام قد تفاجأ بتحد من عقر حظيرته وليس بمقدوره أن يعالجه بطيش كدأبه ، لإدراكه أن ذلك سيذهب بريحه ، فما كان أمامه إلا أن يتستر على وهنه حتى ولو بالكتمان ، وبما أن هذا الكتمان لم تكشف مستوره إطلالة اسياس من على فضائيته كما أن الحقيقة ما زالت غامضة ولم تنجح هذه الإطلالة في تجليتها إن لم تزد في إبهامها لذا فسنحاول فيما يلي تحليل اللقاء القصير الذي أجرته فضائية النظام الإرتري مع رأس النظام من أجل تحليل مضمون الرسالة التي توخي النظام إيصالها إلي جمهور الشعب الإرتري في الداخل والمهجر مع شيء من التحليل النفسي للحالة النفسية التي كان عليها اسياس أثناء الحوار معه من أجل سبر غور حقيقة ما يجري في ارتريا.

يقول علماء لغة الإشارة أن حركة أعضاء الجسم أثناء الكلام لا إراديا لها مدلولات ولا يستطيع الإنسان أن يتحكم فيها ، كما يقسم العلماء مجموع اثر الرسالة إلي نسب علي النحو التالي:

1- أن 7% من أثر الرسالة تعبر عنه الكلمات.

2- و 38% من أثر الرسالة توصله نبرة الصوت.

3- 55% من أثر الرسالة غير شفهي أي لغة الجسد.

  • فمن الملاحظات:

الملاحظة الاولى: أن علامات القلق كانت بادية على اسياس بشكل جلي أثناء حديثه إلي الفضائية الإرترية ، ومن أهم مظاهر هذا القلق أنه كان يكثر من ابتلاع ريقه في أثناء الحدث وهذه الحالة تفسر شدة القلق وعدم الثقة ، كذالك المدة الزمنية التي استغرقها بث الحلقة كان في حدود ربع الساعة وهي مدة زمنية لا تتناسب مع حجم الحدث وهذا فيه إشارة تدل على عدم رغبة المتحدث ومعدي البرنامج في الإسهاب في الحديث استجابة لحالة نفسية تسيطر على الجميع وهي الرغبة في التكتم علي الموضوع المثار ، وما حديثهم حوله إلا من أجل تأكيد أمر واحد هو نفيه.

الملاحظة الثانية: أنه كان يكثر من إمالة رأسه يمنة ويسرة وهذا أيضا في لغة الجسد يفسر بعدم تصديق ما يتحدث عنه الإنسان ، وهي حركة لا إرادية مما يعني أن الواقع مخالف تماما لما يتحدث عنه ، وهنا يمكن إدراك ذلك فاسياس بسط الأمر أشد تبسيط فقد ذكر أن من قاموا بالحدث لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة ، بيد أن الواقع يقول أن المشكلة كانت أكبر من ذلك حيث استغرق حلها قرابة شهر ، ثم أن من قاموا بها لم يتم اعتقالهم ولا محاكمتهم ولا حتى مساءلتهم، مما يدل علي قوة موقف هذه المجموعة التي وصفها اسياس بالقلة.

أيضا من الملاحظ في هذا الإطار الحديث ببطء شديد علي غير العادة مما يدلل على أن الحديث حول الموضوع غير مطابق للواقع وذلك تلبية لرغبة داخلية يحاول فيها المتحدث السيطرة خشية أن تفلت منه كلمة قد تظهر الحقيقة .

الملاحظة الثالثة: الهروب عن الحقيقة ويتمثل ذلك في عدم توجيه الاتهام مباشرة إلي المعنيين بل كان الاتهام معمما رغم أن الذي قام بالفعل هم مجموعة من أفراد جيش الدفاع الإرتري وهذا يعني أن غالبية أفراد جيش الدفاع الإرتري يؤيدون ويباركون ما حدث ويفهم ذلك من الوثيقة الأمنية التي عممت الى السفارات الإرترية والتي لمحت الى أن المجموعة يحظون بتأييد سواء علي مستوى القيادة في وزارة الدفاع أو الجنود و هذا يدل على أن اسياس ومجموعته يواجهون حالة من الرفض تخطت المستوى الشعبي إلي المؤسسة العسكرية ولذلك تجنب في حديثه تحميل المؤسسة العسكرية نتائج ما حدث ، وفي المقابل لو كان الوضع خلاف ذلك أي أن التمرد كان محدودا كما جاء في الحديث لكان الإسراع في توجيه كبار قادة الجيش بالتبرؤ ممن قاموا بهذه المحاولة الانقلابية ومن ثم قذفهم بسيل جارف من التهم الباطلة التي يحفل بها قاموس الجبهة الشعبية عبر أجهزته الدعائية ليعقب ذلك التنكيل بهم.

الملاحظة الرابعة: أن هيئة اسياس في اللقاء كانت جامدة وهذه الحالة في الغالب تحدث من المتحدث كمحاولة منه لتلبية رغبة داخلية من أجل أن يظهر بمظهر غير لافت وهي دوافع داخلية لا يستطيع المتحدث التحكم فيها ، ويصاحبها أيضا الرغبة في الاختفاء وتظهر في حالة الانكماش وهذه الوضعية كانت جلية في أسياس حيث بدا منكمشا داخل مقعده.

الملاحظة الخامسة: الابتسامة المزيفة وهي حالة كانت أكثر وضوحا علي أسياس أثناء حديثه فان ابتسامته كانت قليلة ومصطنعة ، بخلاف الابتسامة الحقيقية التي تؤدي إلي تحرك العضلات التي حول العين أما المزيفة فتظهر فقط في الجزء السفلي من الوجه.

الملاحظة السادسة: بدا أسياس في جلسة مجلس الوزراء وفي اللقاء غير مهتما بهندامه فأزرار اليدين لقميصه غير محكمة التزرير وهذا يدل علي القلق الشديد والارتباك وضيق الوقت واستغراق الوقت في مسائل قد يراها هي الأهم.

الملاحظة السابعة: بدا أسياس في اللقاء أكثر تلهفا لسماع السؤال التالي ، وأن إجابته عن الأسئلة كانت دون خاتمة منطقية للإجابة فيضطر للتوقف لتلقي السؤال التالي ، بينما المذيع يكون في حالة ترقب لشعوره بعدم اكتمال الإجابة ولم يكن باستطاعته طلب الإيضاح فيضطر علي مضض إلي طرح السؤال التالي.

  • إخفاق الإعلام الارتري بجدارة:

كشف اللقاء حجم العزلة التي يعيشها النظام فلم يدع للقاء أيا من وسائل الإعلام الأجنبية من وكالات الأنباء ومراسلو الصحف الأجنبية ، وهذا يفسر حالة الستار الحديدي الذي يفرضه النظام علي نفسه وعلي الشعب الإرتري ، مما يعني عدم ثقته بالسياسات التي ينتهجها.

وقد أظهرت أحداث 21 من يناير أن ارتريا اليوم هي أقرب الى حالة ألبانيا في عهد أنور خوجا التي كان العالم لا يعرف عنها شيئا إلا اسمها واسم رئيسها بفضل إذاعتها التي كانت تبث بجميع لغات العالم ولكنها تمجد الزعيم الأوحد وبرحيله لم يكن بها إلا الخراب ، وارتريا اليوم ليست بأفضل حالا منها وإعلامها اليوم لا يدري ما يجري فيها إلا عندما يخرج رئيسها من صمته لينفي الحقيقة في رابعة النهار.

أما التلفزيون الإرتري فقد أخفق بجدارة ولم يتطرق إلي ما جري حتى لقاء أسياس ، وانتهي الأمر بكل هدوء دون تحليل لما جري ، أما موقع مركز الدراسات الإستراتيجية التابع للحكومة الإرترية فالمعلومات فيه لم يتم تحديثها منذ أربعة أشهر.

  • ما ذا يعني عدم ترجمة اللقاء:

من أكبر العيوب في الإعلام الموجه سياسة الفرز بين جمهور المتلقين لرسالته فالفضائية الإرترية لم تقم بترجمة اللقاء إلي العربية أو لغة التقري كما لم تتطرق إلى الحدث بعد وقوعه كخبر ومن ثم تحليل ما حدث باستضافة مختصين ، أو بث تصريح من جهة مسئولة بل كانت تبث برامح مسجلة لتساهم في حالة البلبلة التي اعترت كل المهتمين بالشأن الإرتري ، كما لم تفعل ذلك الإذاعة الإرترية والمنعوتة بصوت الجماهير حتى في نشراتها الإخبارية وهذا يعني أن الحكومة الإرترية لا تهتم بجزء كبير من مكوناتها ، كما تعزز بهذا الفعل الاتهامات الموجهة إليها بالطائفية والعنصرية والدكتاتورية ، وبنهجها هذا تكون قد عززت هذه الاتهامات وذلك لعدم اكتراثها لمشاعر غالبية شعبها ، كما تعطي رسالة سالبة فحواها أنها لا يهمها أن يتعرف غالبية هذا الشعب ماذا يجري في وطنه وهذا يدل علي أن المواطنين الغير الناطقين باللغة التقرنية هم مواطنون من الدرجة الثانية عند هذا النظام ، كما أعطى هذا الغموض صورة سالبة لحالة البلاد وكأنها وكر للجريمة تنتهك فيه كل الموبقات وتصدر منه جلبة وضوضاء يشمئز منها كل من حوله ويطرقون علي أبوابه وترتفع الأصوات لتستوضح ما يجري فيطل عليهم واحدا ممن بالدخل عبر نافذة صغير ليقول لهم لا شيء مما تتوهمون ثم يغلق النافذة التي أطل منها في وجه المتجمهرين ، وبهذه الصورة يمكن أن نصور إعلام الجبهة الشعبية بكل أجهزته حيث بدا بائسا و باهتا بلا لون و لا طعم ولا نكهة.

أثبت زلزال 21 يناير بما لا يدع مجالا للشك أن إعلام الجبهة الشعبية إعلام دعائي خاضع لسيطرة الرئيس ولا يزال وبعد مرور عقدين من عمر الدولة الإرترية في مربع مرحلة الثورة ولم يتجاوزها الى مرحلة الإعلام الموجه الذي يخاطب الجمهور الإرتري بشتى أطيافه السياسية ومكوناته الاجتماعية.

  • ما ذا نقرأ فيما حدث:

أبرز رسالة حاول إيصالها من قاموا بأحداث 21 يناير هي أن الأكتاف تساوت وليس هناك زعيم أوحد يستطيع البطش كيف شاء و متى شاء ، كما أن جهاز الأمن الذي كان القوة التي يبطش بها الرئيس وتوفر له المعلومات قد أصبح مشلولا وغير فاعل وان السلطة الآن بيد الجيش الذي أصبح صاحب السطوة وقد تكون له الصولة عما قريب.

أما في جانب الرئيس فقد أظهرت الأحداث مستوى الضعف والوهن الذي وصل إليه ولأول مرة في تاريخه لم يلجأ الى القوة وذلك ليس بتغليب الحكمة عليها بل لأن الأداة التي كان يستخدمها في البطش قد غدت مثلومة وقد تغدو عما قريب معطوبة. إن ما حدث يمكن أن نعتبره الأبخرة المتصاعدة من فوهة البركان التي تسبق الانفجار الكبير وهذه هي حالة قوات الدفاع الإرترية التي هي أقرب ما تكون إلي حالة الانهيار بسبب ما تعانيه من حالة هروب كبير في داخل الوطن وخارجه وهي حالة قد تؤدي بها إلي التلاشي والاضمحلال ولذلك يمكن اعتبار ما حدث حالة من التململ و الاستياء التي تعم كل صفوفها دون استثناء.

التعليقات معطلة.