كتب عدد من الكتاب الإرتريين عن رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي بعد رحيله الكل تناوله من زاويته منصفا أو مادحا أو قادحا، وهي دلالة على تأثير زيناوي في مجريات الأحداث في ارتريا إيجابا وسلبا، لا يختلف اثنان على دور زيناوي في انجازاته الوطنية كرجل دولة من بعد سقوط منجستو هيلي ماريام وتبخر حزبه (الإيسابا) .
- تأثير الثورة الارترية:
تعتبر الثورة الإرترية المحفز الحقيقي للشعوب الأثيوبية للتحرر من طغيان وجبروت أباطرتها، فرأى ثوار أثيوبيا في الثورة الإرترية ملهمتهم في النضال. كانت أثيوبيا الحليف الرئيسي للقوى الاستعمارية في المنطقة يسندها حضورها لمؤتمر برلين في نهاية القرن التاسع عشر وبذلك تكون الدولة الوحيدة التي حضرت المؤتمر من خارج أوروبا بالإضافة إلي دورها في تأسيس عصبة الأمم في نهاية الحرب العالمية الأولي وهو ما دفع بعض أباطرتها التصرف وكأنهم مثل أباطرة أوروبا، فكان تحرك منليك في الاتجاهات الأربعة، يوسع مملكته علي حساب الشعوب الأخرى التي كانت تحيط بمملكه الحبشة التاريخية، وعلي نفس المنوال سار هيلي سلاسي، الذي واجه تحديا داخليا في مطلع حكمه من قبل الوريث الشرعي للعرش (إياسو)، ثم تحد آخر من شعب تجراي الذي تطلع إلي استعادة مجد الإمبراطور يوهنس الذي استحوذ عليه منليك والذي رأي في يوهنس غاصبا لمجد قوميته حين تآمر مع الإنجليز ضد تيدروس الذي أنهى حكمه اللورد نابير في حملته المشهورة علي أثيوبيا في عام 1868م وسلم جزء من أسلحة الحملة للرأس يوهنس لتعاونه مع حملته فأصبح أقوي الرؤوس ولقب بـ (أطي) يوهنس – اللقب التاريخي لأباطرة الحبشة و الذي حرفه المؤرخون العرب الى عطية – غير أن حكمه لم يدم طويلا حيث قضي عليه الدراويش في معركة القلابات فوثب منليك علي الحكم، ثم جاء تفري (هيلي سلاسي) الذي واجه تحديا حقيقيا حين تمرد عليه شعب تجراي في عام 1948م فاستعان بالإنجليز المتواجدين في عدن الذين قذفوا بطائراتهم مدينة مقلي ليتم إخماد أول حركة تمرد في تجراي عرفت بالوياني.
هذه الحالة من الاستضعاف استغلها هيلي سلاسي لإجبار إقليم التجراي على التحالف معه للقضاء على الثورة الإرترية فصاروا يشكلون العمود الفقري لقوات الكماندوز المعروفة، ولكن بمجرد سقوط نظام هيلي سلاسي شعرت بالمزيد من الاضطهاد والاستضعاف، فاتجهت من جديد الى التمرد علي النظام الشيوعي فكانت حركة الرأس منجشا التي عرفت بالاتحاد الديمقراطي الأثيوبي e.d.u التي لم تكن لترضي طموحات المتعصبين من أبناء تجراي الرافضين لهيمنة الأمهرا والبارزة في الحزب الثوري لشعوب أثيوبيا فتأسست الجبهة الشعبية لتحرير شعب تجراي في عام 1975م.
- بادمي نقطة الالتقاء والاختلاف:
من يعود الى أدبيات جبهة التحرير الإرترية أثناء القتال بينها وبين الجبهة الشعبية في عامي 80 ـ 81 من القرن الماضي يجد اتهام جبهة التحرير الإرترية للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا بأنها تحالفت مع تنظيم أثيوبي ضدها وأقحمت هذا التنظيم في خلاف إرتري إرتري، وفي رأيهم أن ما جعل الجبهة الشعبية لتحرير تجراي تندفع في قتال جبهة التحرير الإرترية هو الطمع في الحصول علي منطقة بادمي، وتنازل الجبهة الشعبية الإرترية عن تلك المنطقة لتجراي نهائيا، وكان الوضع علي الأرض كذلك فقد اتخذت الجبهة الشعبية لتحرير تجراي المنطقة الممتدة من شيلالو علي الحدود الإرترية وحتى شيرارو الأثيوبية قاعدة خلفية للتنظيم وذلك لحصانتها وصعوبة الوصول إليها، وارتباطها المباشر بطريق الإمدادات الآمن الذي يمر عبر مدينة تسني.
- مسيرة زيناوي النضالية:
التحق رئيس الوزراء الأثيوبي الراحل بثورة شعب تجراي في 1975م، اختير في عام 1979م عضوا في اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير تجراي، وقد تم اختياره عضوا في المكتب السياسي في عام 1986م عقدت الجبهة الشعبية لتحرير شعب تجراي مؤتمرها العام الثاني وفيه تم اختيار ملس زيناوي أمينا عاما للجبهة الشعبية لتحرير شعب تجراي، في عام 1989م تم تشكيل تحالف أطلق عليه الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية من 4 تنظيمات كانت تحارب نظام الدرق وكانت ذات طابع قومي تتمثل في : التقراي، و الأمهرا، والشعوب الجنوبية، والمجموعات الأرومية، التي كانت تعمل بمعزل عن جبهة تحرير شعب أرومو، وقد أصبح زيناوي رئيسا لهذه الجبهة، وكان تشكيل هذه الجبهة بعامل ضغط من أجهزة الاستخبارات الغربية الأمريكية والبريطانية والألمانية، والتي فتحت لها أبواب الدعم علي مصراعيه، فألمانيا لوحدها تبنت المسائل اللوجستية لهذه الجبهة ومنحتها دفعة واحدة من شاحنات المرسيدس بلغت 150 شاحنة وكانت قوة دعم خرافية في حينها، أما بريطانيا فقد سيطر عليها البخل الذي اشتهر به الإنجليز فلم تعد بدعم مباشر، غير أنها وافقت علي أن تقيم الجمعيات الخيرية الحفل الشهير الذي عرف بالأمل والذي أحياه الفنان بوب قلدوف في بريطانيا واستطاع أن يجمع لهذه المهمة مبلغ 11 مليار دولار أمريكي خصصت لدعم العمل العسكري لهذه الجبهة.
كانت أكبر عمليات الجبهة الديمقراطية الثورية هي عملية تيدروس والتي دفعت بالجبهة الى أطراف العاصمة أديس أبابا وخروج أقاليم تجراي وولو وقندر من سيطرة الدرق وأصبح إقليم جوجام برمته خاضعا للجبهات الأرومية.
- زيناوي ومعارضي اسياس:
هناك فارق عمري بين زيناوي واسياس لا يقل عن عشر سنوات هذا الفارق يجعل من أسياس يشعر بعقدة التفوق علي زيناوي كما أن أسياس ورث من قوات التحرير الشعبية ترسانة أسلحة وأموال لا يستهان بها سخرت في تسليح وتدريب الجبهة الشعبية لتحرير تجراي، كل هذا فرض علي الجبهة الشعبية لتحرير تجراي وقياداتها تقدير واحترام اسياس أفورقي ولكنه استغل ذلك أبشع استغلال، فبدأ يلقي الأوامر عليهم لكونه صاحب فضل عليهم دون اكتراث لمكانتهم التاريخية والمستقبلية وإمكانياتهم القيادية والتنظيمية.
لم يكن للجبهة الشعبية لتحرير تجراي أي نوع من الاتصالات بتنظيمات الثورة الإرترية إلا إذا استثنينا بعض الأوقات التي قد تتباين فيها مواقف قيادة الجبهة الشعبية لتحرير شعب تجراي مع اسياس حول بعض المواقف العسكرية كما حدث في عام 1986م عندما بدأت الجبهة الشعبية لتحرير شعب تجراي بشن هجوم إعلامي علي الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا مستخدمة أقذع العبارات في قاموس الشيوعية الماوية من قبيل ( التحريفية) ( والشوفونية البلشفية) ووسم قيادة الجبهة الشعبية بـ (البرجوازية الطفيلية) وبدأت باتصالات علي مستوي مكتبها في كسلا بقيادة التنظيم الموحد وذلك من أجل الضغط علي الجبهة الشعبية . كما بدأت بتوفير ملاذات آمنة لبعض المجموعات التي انشقت من قوات التحرير الشعبية مثل تسفا محرت، فاتجهت الجبهة الشعبية لتحرير ارترية للتقارب مع الأرومو . هذا الخلاف لم يدم طويلا وسرعان ما عادت الأمور بين التنظيمين الى طبيعتها وسارت العلاقات نحو الأفضل.
لم يحاول زيناوي طوال فترة النضال بذل جهده من أجل التقريب بين الجبهة الشعبية وبقية تنظيمات الثورة الإرترية من أجل توحيد جهدها ضد الدرق الذي كان يحارب الجميع بل حسب عليه وقوفه الى جانب اسياس بصورة مطلقة وإسهامه في إخراج التنظيمات الإرترية ألآخري من الساحة من خلال اشتراك تنظيمه في القتال في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا.
بعد اعتلاء زيناوي السلطة وسقوط منقستو في عام 1991م دعي زيناوي جميع أطياف المعارضة الأثيوبية وتم إشراكها في الحكم، في المقابل كان اسياس ينكر وجود معارضين له في ارتريا ووقع مع أثيوبيا اتفاقيات أمنية تلزم الطرفين بعدم إيواء المعارضة من الجانبين والتزم زيناوي بهذه الاتفاقيات وطردت أثيوبيا تنظيمات ارترية كان لها وجود في أثيوبيا، ولم يلتفت زيناوي إلى المعارضة التي تنشط ضد اسياس إلا حين وقع الخلاف بينهما في مايو من عام 1998م ومن ذلك الوقت بدأت أثيوبيا بالاتصال بالمعارضة الإرترية، ودعمها من أجل الضغط على نظام اسياس افورقي الذي يحاول فرض غطرسته وإملاء إرادته على جميع دول الجوار دون النظر الى حجمها أو توجهاتها.
- أهم انجازات زيناوي من وجهة نظر ارترية:
أهم إنجاز حققه ملس لإثيوبيا هو أنه حررها من الكابوس الدائم الذي سببته لها الثورة الإرترية وكانت أثيوبيا علي شفا الانهيار، وذلك حين اعترفت الجبهة الشعبية لتحرير تجراي في أواخر السبعينيات بحق ارتريا في الاستقلال ورأت في القضية الإرترية أنها من مخلفات الاستعمار، في المقابل كانت بقية التنظيمات الإثيوبية تطرح مناقشة المسألة الإرترية في إطار مجمل القضايا الإثيوبية باعتبارها قضية أثيوبية داخلية وليست من مخلفات الاستعمار، وهي وجهة نظر التنظيمات الشيوعية الأثيوبية وتبناها فيما بعد المجلس العسكري( الدرق ) وعرفت بالنقاط التسعة وروجت لها الأحزاب الشيوعية في الكتلة الشرقية وفي العالم العربي.
هذا الموقف يعتبر أهم انجازات ملس لإثيوبيا وكان سببا في المحافظة علي وحدة أثيوبيا وتأمين مخرج سليم للقضية الإرترية انجلي حين دفع بالحكومة الأثيوبية المؤقتة التي كان يرأسها إلي الاعتراف بنتيجة الاستفتاء دون أن يكون لأثيوبيا حق الاعتراض على ما ستتمخض عنه نتيجة الاستفتاء . كما أن قتال قواته جنبا الى جنب مع قوات الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا ساعد على شل حركة وقوة قوات الدرق، وتسبب في الإسراع بانهيارها ضمن عوامل أخرى.
كما يحسب لزيناوي محافظته على وحدة إثيوبيا السياسية وعقلانيته في حل المعضلات الوطنية، وكسبه للرأي العام الدولي، وهو ما تقره أيضا المناقشات التي تدور حاليا بين قيادات وكوادر حكومة الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا فكلهم يؤكدون بأنهم بموت رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي فقدوا عدوا عاقلا.
- زيناوي واستعادة المجد لقومية تجراي:
لمن أتيحت له زيارة إقليم تجراي خلال العقدين الماضيين يستطيع مشاهدة صور ملس زيناوي وهو يجلس علي مقعد وثير، هذه الصورة تختصر أهداف الجبهة الشعبية لتحرير تجراي التي ناضلت من أجلها طوال 17 عاما وهي استعادة حكم أثيوبيا الذي فقدته أكسوم وكان لصالح الأمهرا ولم تتمكن قبلها من استعادته إلا لفترة وجيزة في الربع الأخير من القرن 19 عندما سقط تيدروس، غير أن منليك سرعان ما انتزعه منهم عن طريق الرأس مكنن والد هيلي سلاسي، وكان مكنن بطل انتصار عدوة الذي أكد علو كعب الأمهرا وأفول نجم رؤوس تجراي الذين خرجوا منهكين من المواجهة التي خاضوها أمام الطليان بعد معركة دوقالي قرب الشواطئ الإرترية.
هناك كتاب قيم لصديق الشعب الإرتري الوفي الصحفي الراحل سيد أحمد خليفة عنوانه (أثيوبيا حان وقت التسويات) وهو من أقيم الكتب التي تناولت الوضع في أثيوبيا خلال النصف الأخير من عقد السبعينيات من القرن العشرين، عكس من خلاله أن أثيوبيا ستنغمس في نزاع داخلي هدفه التسوية، وهي حقيقة أكدتها مجريات الأحداث فيما بعد وكان من لوازم هذه التسوية قيام تحالفات.
- زيناوي الجبهة الشعبية لتحرير تجراي والتحالفات :
ضمت الجبهة الشعبية لتحرير شعب تجراي المتحمسين من قومية التجراي لإعادة أمجاد التجراي التاريخية وسعت جاهدة لاستعادة تلك الأمجاد وحاولت إزاحة كل من يقف في وجه تحقيق هذا الهدف، وتحالفت مع كل من يساعدها في تحقيق هذا الهدف.
التقت أهداف الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا والجبهة الشعبية لتحرير شعب تجراي في ضرورة التخلص من الجهات التي تعيق مشاريعهما فكان التحالف بينهما للتخلص من جبهة تحرير تجراي التي تأسست في عام 1973م، والإتحاد الديمقراطي الأثيوبي، والحزب الثوري لشعوب أثيوبيا، و من جبهة التحرير الإرترية التي كانت تربطها علاقات جيدة بهذه التنظيمات ولذا فإن كثيرين من مناضلي جبهة التحرير الإرترية لم يجدوا التفسير المناسب لتطرف قيادات الجبهة الشعبية لتحرير تجراي ضدهم، وتم القضاء علي الإتحاد الديمقراطي والحزب الثوري، وهذان التنظيمان كانا يمثلان الجماهير الإثيوبية التي تتألف من الإقطاع والفلاحين ويمثله الإتحاد الديمقراطي، وطبقة العمال وجماهير الفلاحين وكان يمثلها الحزب الثوري المنافس القوي للمايسون (الحركة الاشتراكية لعموم أثيوبيا) الذي اختار الوقوف الى جانب العسكر بزعامة منقستو، في المقابل تمثل الجبهة الشعبية لتحرير تجراي الطبقة الوسطي التي تشكلت تحت رعاية هيلي سلاسي والمتحالفة معه، وبسقوطه فقدت هذه الطبقة جميع امتيازاتها فما كان أمامها إلا حمل السلاح الذي وفره لها المخلصون لنظام هيلي سلاسي من قوات الكوماندو وكانت نصف كتائبها من إقليم تجراي ومسرح عملها ارتريا، فلم يكن أمامها من بد إلا التحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا.